الحياة ضرورات واختيارات، فماذا اخترت أنت؟
هذا هو السؤال الضمني الذي تواجهنا به الأيام والليالي كل ساعة وحين، وهي بهذا تشعرنا بأن فعل الاختيار ليس اختياريا دائما، ولكنه إجباري في حالات كثيرة، ولقد وجدنا من يقدم لهذا السؤال ـ التحدي الإجابة التالية:
( اخترت الحياة يا ولدي.. فالحياة أحسن الاختيارات والموت أسوأ الضرورات ) 1
هكذا تحدثت شخصية مسرحية في تلك المقامات البهلوانية التي تحمل توقيعي، وتحمل شيئا مني ومن طقسي ومناخي، وتقاسمني نفس أحلامي وأوهامي.
الاحتفال حياة وحيوية، هكذا عرفته وعشته، وهكذا عرفته دائما في كل كتاباتي النظرية والنقدية، أما شرطه الأساس، فإنه لا يمكن أن يكون إلا الحرية، فبهذه الحرية الخلاقة يكون، وبدونها لا يمكن أن يكون أبدا، ومنذ الكتابات الاحتفالية الأولى، تم التأكيد في الأدبيات الاحتفالية على هذا المعنى، والذي هو أن (الاحتفال هو التعبير الحر للإنسان الحر في المجتمع الحر) وبحثا عن هذه الحرية المتكاملة، في بعدها الذاتي وفي مستواها الموضوعي، فقد قال ذلك الاحتفالي كلمته التالية:
( إنني أريد أن أكون مواطنا حرا، وذلك في وطن حر، وفي زمن يكون زمنا للحرية والانطلاق وللإبداع والخلق والاحتفال والتلاقي وللشعر والفكر والعلم والحكمة، وأن أجد نفسي مكرما مع المكرمين، وألا أجد نفسي مضطر لأن أكون ضيفا على مائدة اللئام) 2
وأعرف أن الحرية بغير كرامة لا تكفي
وأومن بأن الحرية بدون مسئولية فوضى غير منظمة
وأرى أن الحرية بدون اختيارات عاقلة لا معنى لها
وأعتقد أن الحرية، بغير رشد نفسي وذهني وروحي، ما هي إلا هذيان نفسي وعقلي وانتحار غير معلن.
ثم إن هذه الحرية، إذا لم تساهم في تجميل الجميل وفي تجديد الجديد وفي إحقاق الحق وفي تعديل كفة العدالة، فإنها لن تكون إلا كلمة خادعة ومخادعة ومزيفة ومضللة، وهكذا هي اليوم في العالم الغربي والشرقي معا، أي مجرد كلمة للاستهلاك السياسي والإعلامي، وهي توظف توظيفا سيئا وميكيافيليا، وتوضع في غير موضعها، وفي غير مكانها وفي غير سياقها الحقيقي، وتصادفنا اليوم ـ تماما كما صادفتنا بالأمس القريب والبعيد معا ـ الأسئلة الجوهرية والحيوية التالية:
ــ ما معنى هذه الحرية إذن، إذا كانت مدخلا لتدمير الذات؟ ذات الفرد وذات الجماعة معا؟
ــ وأية قيمة يمكن أن تكون لها إذا كانت مرادفة لبيع الجسد الآدمي في سوق النخاسة الجديد؟ ــ وأي معنى يمكن أن يكون لها، إذا كانت حرية لمصادرة العقل، ولاعتقاله بعقال المخدرات، وكانت حرية سلبية لممارسة الهروب والغياب؟
ــ وهل يمكن لهذه الحرية ـ في معناها الحقيقي ـ أن تكون حرية حيوانية ووحشية، وأن تكون فعلا متوحشا في الغاب، وليس فعلا مدنيا وحضاريا مسئولا في المدينة الإنسانية؟
شيء مؤكد أن كل شذوذ يمكن أن يخرج عن ثوابت المؤسسات المدنية والحضارة لا يمكن أن يكون إلا فعلا وحشيا، وعليه، فقد كان المعنى الحقيقي للحرية يكمن فيما يلي:
ــ أن تكون إنسانية ومدنية أو لا تكون، أما حرية الحيوانات والوحوش فلا كلام عنها، وليس هذا السياق الجمالي والإبداعي والأخلاقي سياقها الحقيقي..
واليوم، عندما يضيق بنا هذا العالم المادي، فإنه يصبح من حقنا أن نهاجر إلى العوالم الافتراضية الأخرى، وأن نبحث مثل عبد السميع عن عالم أوسع وأرحب وأصدق وأجمل وأكمل، عالم ( لا يدركه الليل) ولا تغيب عنه شمس الحق والحقيقة، والإنسان فيه خارج كل الضرورات والإكراهات والجاذبيات المختلفة، عالم ( لا تلحق به الشيخوخة والمرض والموت) 1
وهو عالم غني أيضا، حيث ( لا فقر فيه ولا جوع ولا عذاب ولا ألم ولا اختناق ولا أعلى ولا أسفل) 2
ومثل هذا العالم لا يمكن أن يصل إليه إلا من كان مثل صاحبي عبد السميع ( له عيون طفل وأحلام طفل وقلب طفل) 3
إن الأصل في الاحتفال أنه جزاء، وذلك لأن من حق الأحياء ومن حق المجتهدين ومن حق الناجحين ومن حق العاملين أن يحتفلوا، أما الأموات، فلا تجوز إلا الرحمة على أرواحهم، وأما الغائبون والنائمون والهاربون والمختبئون، فبأي شيء يحتفلون؟ ولماذا يحتفلون أصلا؟ ولعل هذا هو ما يبرر أن دعاة الكسل العقلي هم أول من حارب التنظير الاحتفالي، ولقد كانوا أول من خاصم هذه الاحتفالية المؤسسة والمجددة والمجتهدة، وكانوا أول من خاصم فيها صدقها ومصداقيتها، وحارب فيها جهادها واجتهادها، ومن الطبيعي أن يخاصم العدميون الوجود الموجود، وأن يحارب الظلاميون النار والنور، وأن يتضايق الكسالى من الاجتهاد ومن المجتهدين ومن الفعل والفاعلين، ومن السفر والمسافرين.
إن الاحتفال لحظة استثنائية في فضاء الزمن الاستثنائي، لحظة مشرقة تعنى الرضا عن الذات أولا، وتعني المصالحة مع الآخر ثانيا، وتعني التوافق مع المحيط الاجتماعي ثالثا، وتعني التكيف مع المناخ الطبيعي رابعا، وتعني الإحساس بجماليات الوجود والموجودات خامسا.
ومثل هذا الرضا، في معناه الحقيقي، لا يمكن أن يكون إلا درجة من درجات العيش والحياة، درجة عليا في سلم الوجود بكل تأكيد، ويرى الاحتفاليون أنه لا يمكن أن يصل إلى هذه الدرجة إلا السائرون على الجمر، ولا يمكن أن يبلغها إلا المسافرون والراحلون والمهاجرون والمؤمنون الصادقون والمشاءون في دروب الحق والحرية، والسائرون في شعاب الجمال والكمال والحكمة والفضيلة، أما القاعدون ـ أو المقعدون ـ والمعاقون والقانعون بأحلام اليقظة، فإنهم لا يمكن أن يحققوا أي فتح، وعليه، فإنه ليس من حقهم أن يحتفلوا، أو أن يعيدوا..
وبحكم أن درجة هذا الاحتفال الصادق، لا يمكن أن تكون إلا درجة عالية وسامية، وبحكم أنها بعيدة وصعبة، وأنها شاقة ومكلفة، فقد كان الوصول إليها يحتاج ـ وبالضرورة ـ إلى جرعة مهمة من المخاطر، وفي هذا نتفق مع ذلك الشيخ الحكيم الذي قال ( في المخاطرة شيء من النجاة ) وبقدر زيادة جرعة هذه المخاطرة، فإن فرص النجاة تكون أكبر أيضا، ويصبح من حق الناجين ـ وحدهم ـ أن يحتفلوا ويعيدوا.. يحتفلوا بالحياة التي أخرجوها من دائرة الموت، ويحتفلوا بالعدل الذي حرروه من براثن الظلم والظالمين، ويحتفلوا بالنور الذي أخرجوه من جوف الظلمة والعتمة، ويحتفلوا بالغنى النفسي والذهني والروحي الذي حرروه من غول الفقر والبؤس.
إن الاحتفال وجود بين حدين متقابلين ومتكاملين دائما، أي بين حد الميلاد وحد الموت، فمن هذا الاحتفال الوجودي نبدأ إذن، وإليه ننتهي نهاية مؤقتة، وما هذه الحياة إلا سلسلة متماسكة ومترابطة من الاحتفالات الوجودية والاجتماعية والدينية والوطنية والكونية، احتفالات يتبع بعضها البعض، وهي تسير في خط دائري، تماما كما تدور الأيام والليالي، وكما تدور الكواكب السيارة في مداراتها، ففي ساعة المولد نحتفل بالحياة التي نستقبلها، وفي الموت نحتفل بالحياة التي نودعها، وفي إقامة الذكرى نحتفل بالحياة التي عشناها، وباللحظة التي نستعيدها وجدانيا.
إن من طبيعة الاحتفالي أن يكون مشاء، وأن يكون مسافرا دائما، وأن يعيش متنقلا بين الأمكنة والأزمنة، وبين الحالات والمقامات، وبين الأفكار والتصورات، وأن يكون هذا المشي ـ السفر تحررا وانفلاتا من شيء، أو بحثا عن شيء، ويبقى صديقنا (السندباد) برحلاته البحرية السبع، رمزا للبطل الاحتفالي الباحث دوما عن معنى ما لوجوده ولحياته، وإلى جانبه نجد شخصية الحلاج الصوفي، والذي هو بطل احتفالي بامتياز، وهما معا، السندباد والحلاج، لهما وجود في الكتابات الإبداعية الاحتفالية (سالف لونجة مثلا) ويتردد اسمهما كثيرا في الدراسات وفي الأبحاث وفي الحوارات الاحتفالية. وإذا كان ال (سندباد) يرحل خارج جسده، وكان يسافر في فضاء الزمان والمكان المحدد والمحدود جغرافيا، فإن الحلاج لا يرحل إلا داخل جسده المادي، وداخل نفسه وروحه، وفي هذا الداخل الروحي مسافات وأبعاد ومواقع كثيرة غير محدودة و لا محددة، وفي هذا المعنى يقول الاحتفالي الذي يسكنني وأسكنه:
( إن الموجود لا يهمني، وهو لا يرتقي إلى مستوى طموحي وتطلعي، وهو ـ بالضرورة ـ (ضعيف في همتي كشعرة في مفرقي) كما قال عمنا المتنبي)
وفي سفره يختار هذا الاحتفالي الطريق الصعب والشاق دائما، وهو بهذا يؤمن بالمثل الصيني الذي يرى بأن ( أقصر الطرق أطولها) ولذلك فقد اختار أطول الطرق وأصعبها وأكثرها غموضا وخطرا) وأكثرا غموضا هي أكثرها سحرا وشاعرية بكل تأكيد.
الهوامش:
1 ـ ع. برشيد ( اسمع ي عبد السميع ) احتفال مسرحي ـ دار الثقافة ـ الدار البيضاء ,,
2 ـ نفس المرجع السابق
3 ــ نفس المرجع